تسعة و ثلاثون
مرت سنة أخرى لي على هذه الأرض، لم أكن أكثر من مراقبة وموّثقة لآلام الناس،
أحلامهم المختنقة، وتلك التي تحتاج إنعاشاً...
أمّا عني، فأذكر سنتي الماضية في لمحات:
الأولى:
في ليلة شتاء حزينة، زارني الحزن على هيئة طفل خائف، ورأيت بأم عيني قريباً عزيزاً على قلبي، يبدأ رحلةً لا تشبهه، رحلةً فرضت على هدوئه حمل السلاح، على علمه تكتيك الحرب، وعلى نقائه ذعر الموت.. قلت للحزن أهلاً، ليست المرة الأولى التي تحضر فيها، لكنك تعلم تماماً أنك لن تحتلّ كامل المكان.
الثانية:
في صباح ربيعيّ يحكمنا بالاستمرار، زارني الموت على هيئة عجوز مريض، لم تكن زيارته الأولى، فمنذ بداية الحرب في العراق، ثم سوريا.. لم أعرف للأمان رائحة، وعلى الرغم من بعد جسدي عن تلك البقاع، ظلّت روحي مسافرة بين هنا وهناك.. إلى أن سكن الموت بيت طفولتي وهدّد أقرب الناس إليّ.. عندها ظلت روحي هناك.
الثالثة:
في تجليّات للوقت لا تشبه بعضها، قصدت أكبر المشافي الأمريكية في مقابلات عمل، لدهشتي واستغرابي حصلت عل عقود متميّزة من الجميع دون استثناء!
زارتني أثمان تعبي: بعد أكثر من عشرين سنة من العمل والدراسة في المجال الطبي، وكثير من المحاولات الفاشلة، من الكفاح، من الصبر.. بعد أن حاولت النطق باللغة الجديدة، ووضع مكرروا الصدفة معلوماتي الطبيّة تحت المجهر بسبب غيرة نساء، عنصريّة جهلة، نرجسيّة أساتذة..
في تجليّات الوقت تلك علمت أكثر: أنه ما من قوة في الأرض تستطيع أن تقف في وجه طموحك إن أنتَ عزمت عليه وكافحت.
الرابعة:
في مساء صيفي يشبه الحب الأول، وصلتني تقييمات طلاب الطب الذين علمتهم في العامين الماضيين:
كمّ الامتنان الهائل أذهلني، مع خطاب شكر من رئاسة الكادر التعليمي في كلية الطب: أول أستاذ يحصل على التقييم الممتاز في تعليم جميع المواد الطبيّة لطلاب الطب لمدة سنتين.
قرأتها وبكيت.. أعلم أن وجودنا على هذه الأرض ليس إلا لمساعدة بعضنا بشكل أو بآخر.. الباقي كله وقت منتهي الصلاحيّة.. فلا تعيشوه.
الخامسة:
عندما اتخذتُ واحداً من أصعب القرارات في حياتي: الخيار كان بين عمليَن:
الخيار الأسهل كان أن أبقى في الجامعة التي تخصصت في الطب النفسي فيها، بعرض استثنائي في الوقت والمال، كطبيبة نفسية، مساعدة بروفسور، ومساعدة مديرة تدريب الأطباء المقيمين في اختصاص الطب النفسي Associate program director
الخيار الأصعب كان أن أبدأ بداية جديدة في مشفى آخر، مدينة أخرى.. وأستمر في حلمي لمحاولة تغيير الطب النفسي.. تطبيعه بنكهة الثقافات المختلفة ومحاربة الوصمة.. مع دعم استثنائي في هذا المجال.
السادسة:
كنت أعلّم طفلتي القراءة، قلت لها: العلامة التي تحصلين عليها غير مهمة، عمرك ثمانية، آن الوقت لتحاولي بأقصى جهدك، ولا تهم النتيجة.. المهم المحاولة...
احتضنتني ألما:
-ماما أنت تعملين كثيراً، في المنزل، في المشفى وفي الكتابة.. أظنّ أنّ حياتك ثلاث حيوات – عمرك ليس تسعة وثلاثون.. عمرك تسعة وثلاثون ثلاث مرات...
السابعة:
عندما بدأ موقع الطب النفسي الاجتماعي بالانتشار، وبدأت تصل إليه مئات الحكايا والاستشارات النفسيّة، فرحي الأكبر كان وأنا أرى الطب النفسي يزدهر في أوطان تحتاجه، والوعي حوله يكبر ويزيد.. في أول ساعة ومع أول تقريرعن فعالية الموقع:
أحسست أن الحزن الذي يزورنا عميد استمرار..
الموت الذي يذكرنا بقصر الحياة أستاذٌ يعلمنا التحدي..
الإرادة التي تستخدمها في الكفاح تغزل لباس الستر الحقيقي: علمك واستمرارك في التعلم.
القرار الأصعب هو الأصح دائماً...
الحياة لا تقاس بعدد السنوات، قد تعيش ربع حياة إن استسلمت، وثلاث حيوات إن أنت استمعت إلى روح الله فيك...
شكراً لجميع من مرّ في حياتي في العام الماضي..
شكراً لمن استمر في حياتي من سنوات..
شكراً لمن اختاروا الرحيل وترك الباب مفتوح.. ولمن خرج وأغلق خلفه(البيبان).
الحب –ليس إلّا لكم جميعاً...
لمى محمّد